لطالما تمنيت أن أكون بينكم على أرض فلسطين الحبيبة ,, أرض نابلس الغالية... أشواقي تصطدم بواقع الإحتلال .. و الفاشية الصهيونية .. فلا يصبح هناك مجال لي أن أكون معكم إلا عبر كتاباتي إليكم .. عبر هذه المواقع التي قادتني إليها الصدفة البحتة.. فسعدت بها لإنها أعادتني لجوكم الرائع... الغربة هي موت لكل إنسان.. فما بالكم بإنسان فلسطيني... حيث الغربة تصبح أعمق و أقسى .. أتابع أخباركم.. أبكي .. أشعر بالزهو لصمودكم.. أشتاق لكم جميعاً .. أشتاق للأزقة العتيقة في القصبة .. أشتاق لبلاطة و عسكر و العين.. أشتاق لمنظر الغروب ... أشتاق لحبيبتي نابلس. إليكم هذه القطعة التي كتبت عن المقاومة خلال عملية الإجتياح للبلدة القديمة في ربيع 2002. الصمت الذي تحتويه القطعة يصرخ.. يتفجر .. يحمل تفاصيل صغيرة من المعركة.. و لكنه في الوقت نفسه يهاجم بلا رحمة الظواهر الصوتية التي أصبحت تمثل حالنا.. تلك الأدوات الإعلامية الفارغة في العالم العربي.. كانت ألحان أغنية الصمت تصرخ مدوية في القصبة .. و كانت القنوات العربية تعلن بكل وقاحة أن لا شيئ يحدث.. أنتم الشهود و أنتم الوقود.. فعيشوا و إحيوا بكل الشموخ في العالم
أغنية الصمت المرة ( لأن من سقطوا سطروا في الذاكرة تفاصيل تملؤها أنغام
الأوقات التي ضاعت في خضم شاشاتكم .... فكانوا مجرد أرقام أخرى ... لكنهم سطروا في سقوطهم لحن الخلود ... أغنية ستبقى في ذاكرة الفلسطيني حتى نهاية الزمن لأجلهم كانت الأغنية صامتة و مرة ).
صوت أغنيتي يصدح فوق أرصفة , داستها جنازير الدبابات ... تحرق في الرصيف شوقه لخطوات العشاق ... كلمات باكية ... آهات مكتومة ... الرصيف يتوجع ... و الدبابة تطلق النار ... ليست رصاصات عادية تلك التي تخرج من المدفع الذي يتحرك من داخل الدبابة ... أنها توجع الحجارة .. تترك بصمة غائرة في الجدران الحزينة التي تبرعت بحماية قاطنيها ... و خسرت التناسق الرائع الذي خلقته يد البناء الماهر الذي عكس عشقه على مساحة الحجر ... ذاك الشوق الذي ينبع من الأرض للجبل و من الجبل للوادي بتواصل لا منتهي ...جعله بيديه طيعاً ليكّون جمال المكان ... ليعكس ثقافة الأرض و المكان ... يرتفع اللحن بشجون و يهبط بقسوة ... و صوت الصاروخ من السماء يهدر قبل أن يضرب ... صفيراً متواصلاً مملاً ، مفاجئ .. صاعق ... و كتلة الغبار تحمل عبق لمسات الحجارة و بضع كلمات خطتها يد فتىً ...تحول الغبار دموع للمكان ... و تراكمت الحجارة الجميلة باكية و قد عجنت .
الأغنية تتواصل بصخب ... و الدموع و الدماء تأخذ منطقاً آخر ... منعطفاً آخر ... هنا يبدأ اللحن بالانحسار ... و تتوقف الأغنية ... لنبدأ في مسح تفاصيل الحدث ...
هناك في ذلك المكان الذي يعبق بجملة من الروائح ... هناك تاريخ يستوقفك ... قيم روحانية ...أدعية تنطلق من حناجر المؤمنين ... تلاوات ..صلوات .. تهاجمك بغتة رائحة الدواء بقسوة لتحاصرك ... قبل أن ترى بقع الدماء عند المنبر الذي تحول إلى جسم غريب في محيط تملؤه الدماء و رائحة المعقمات .
لنعيد سماع الأغنية مرة أخرى ... هناك في الشوارع العتيقة ... نعيد صياغة اللحن ... نضفي عليه بعض الإنسانية... لنعيد تشكيل المشهد مرة أخرى ... نرتب مقاطعه المختلفة ... نؤالفه مع الصوت ... لنسمع مرة أخرى أغنية الصمت .... في ذلك المكان الصغير حيث تفوح من جنباته أدعية و صلوات اختلطت مع أنات الجرحى ... و صرخات تعلو صوت القصف ... الله أكبر ... الله أكبر ... كان الصوت يعلو ليعطي النازفين أملاً بيوم أخرَ .. و يعطي ملائكة المكان دفعة لمقاومة النعاس و الانطلاق لحمل جريح جديد ... تحت صوت النار و أزيز الطلقات العمياء ..، عند المدخل يقف شاب صغير بدا عليه الإجهاد ... يستوقفني عند المدخل ( لا تستطيع الدخول بسلاحك أنه لمصلحة الجرحى ) تأملت وجهه قليلاً قبل أن أترك مؤقتاً بندقيتي ... بدأ اللحن بالارتفاع مرة أخرى ... كان تآلف المكان مع نفسه مع الآخرين ... يجبرك على الخشوع ... كأن صوت الأدعية اختار أن يبقى بعد أن رحل المصلون و حل مكانهم شهداء و جرحى و متطوعون ... علّ الدعاء يضيف شيئاً على عمل الطبيب .. أو يخفف بعضاً من ألم جريح ... جلتُ في الوجوه ... كان الألم يسيطر لكن كان في العيون بريق ... اقتربت من باحة المسجد.. بدأ اللحن بالصعود المتواصل ... فتحت الباب ... في باحة المسجد كانت جثامين الشهداء مصطفة هناك ... ألقيت السلام سريعاً على من سبقني ... وقفت عند صديق كان معي قبل ساعات يملأ المكان ضحكاً ... لم أكن معه حين سقط ... مسّدتُ على رأسه و تكلّمتُ معه قليلاً ... طبعتُ قبلةً على جبينه ... وخرجتْ .
عندما هممت بالكتابة عن أيام المقاومة في البلدة القديمة من نابلسَ ... داهمتني العديد من الأفكار ... عن ماذا أتحدث بالضبط ؟؟ أتحدث عن نزيف الذاكرة و وجع المكان ... أم عن قصص البطولة و شلال الدم الذي سال في الأزقة العتيقة و لوّن الأرصفة و الحجارة ... عن صوت الرصاصة يئز في أذني ليسقط بجانبي أحد الرفاق ... أتكلم .. أم أصمت ... لكي يتابع اللحن صعوده وهبوطه ... ليرسم في نغماته طريق الشهداء ... ليتابع تفاصيل المعركة ... يرتفع و ينخفض حسب المشهد .... حسب قوة الدم المتدفق .
أحاول الآن أن أعيد ترتيب الصور في اللوحة ... أعيد دمج الألوان و الأصوات .. لكني أغوص في لا منطق الذاكرة ... حيث تهاجمني الذكريات بلا ترابط مذهل بين البداية و النهاية ... بين اليوم الأول واليوم الأخير... تنتصب أمامي أحياناً صوراً ضاحكة ... ثم تبهت .. لأصدم بمشهد رغبت بنسيانه ... لكن الذاكرة هنا في هكذا وضع ... لا يمكن أن تكون منطقية حين فقد كل شيء المنطق .
هناك في الشوارع العتيقة ... ضاعت كل الحدود بين من حمل السلاح ... لم يعد هناك وسيلة للتفريق بين ابن تنظيم و ابن تنظيم آخر ... هناك تقاسم المقاتلون كل شيء ... الذخيرة و الطعام حتى السجائر و ساعات النوم .. كان كل شيء فوق العادي ... هناك بدأت قصة الحلم ... كانت ترانيم النار في مخيم جنين يتردد صداها في البلدة القديمة .
كانت كل المقدمات و كل منطق في الكون يقول أنه لا جدوى من المقاومة أمام عدم التوازن الهائل بين طائرة الأف 16 و بندقية الكلاشنكوف ... بين صواريخ الأباتشي و العبوات البدائية ... لكن الإصرار و الحلم كانا أكبر من كل منطق .
ينقلني اللحن بصعوده بقسوة ... بتلك الجرأة التي أخذت تطبع اللوحة ... عندما خضت الاشتباك الأول ... ترتفع الأصوات في أذنيّ مرة أخرى ... كان الليل قد هبط بكل ثقله ... لم تكن ترى شيئاً إلا على أضواء انفجارات القذائف و الصواريخ ... كنا نرابط في أحد مداخل البلدة القديمة ... كانت الدبابة تقترب من العبوة التي زرعت هناك ... يأخذني اللحن نحو تلك اللحظة ... يعلو ... يوترك... أقبض على بندقيتي ... يصعد الصوت عالياً مع الانفجار ... توقفت الميركفاه ... لم تعد قادرة على الحركة ... اشتعلت فيها النيران ... يسمو اللحن بروحانية عالية .. يرتفع الهتاف معه ... الله اكبر الله اكبر ... هذه أسطورة حديدية تنهار أمام لا منطق المقاومة ... حيث تضيع كل الحدود و يبقى إصرارك ... مقابل حديد الدبابة ... و تنتصر و تنتشي ...تريد أن تقّبل كل شيء ... حتى الليل ... حتى الرصاصة ... في تلك اللحظة بالذات ... يصدمني تواطؤ الليل مع العدو ... تنهال عليَّ طلقات ... بغزارة .. بتواصل ... أرد .. و أرد ... أتراجع قليلاً ... يغطي علي أحد الرفاق ... رصاصاته تمر من جانبي ... اسمع صراخهم ... أصبناهم ... أتوقف ... يرتفع اللحن بنشوة ... أطلق من جديد ... لم يردوا .. إنهم يصرخون ... أصبناهم .. كان علينا الآن أن نحصر خسائرنا في هذا الاشتباك الأول المفاجئ... وهكذا كان ... سحبنا جرحانا ... إلى هذا الحد ... تنتصب أمامي صورة علام .. أحياناً تخرج الضحكة في أوج المعركة ... في قلب الاشتباك...ارتدى علام سترة واقية من الرصاص قبل هذا الاشتباك بساعة واحدة ... فأصيب بسبع رصاصات في الصدر و الظهر و الخاصرة ... أضحك حين أذكره يودعني ... و حين نزعنا عنه ملابسه و سترته الواقية ... نجد أن رصاصة واحدة فقط استطاعت النفاذ لتصيبه في الخاصرة ... لم تكن خطيرة .
يشدني المشهد في تفاصيله ... يخترق حدود الزمن يعيدني لأجوائه بقسوة بقوة ... بتناغم بين حقيقة الفلسطيني و حقيقة الأرض ... حقيقة الترابط اللامتناهي بين هذين الحقيقتين اللتين توّلدان استعداداً دائماً للتضحية ... هذه العلاقة التي تضم في ثناياها كل تفاصيل المشهد ... حين أصبح المكان لا يستطيع احتواء الأعداد الكبيرة من الشهداء كان لا بد من تصرف ما .... كان لا بد من إيجاد حلول.... هنا ينبعث اللحن من جديد بصوفية ... في طريق الشهداء .. عبر الأقواس و الأزقة... موكب الشهداء .... بين المقاتلين يتخذ طريقه... هذه طريقكم ... تشبثوا بما بقي من كرامة في هذه الأمة ... امسكوا بتلافيف الحلم ... و اختاروا الطريق ... لا عودة الآن ... الطريق واضح ...كانت الوصية المنبعثة من الموكب تطوف في عيون المقاتلين ... تتحول إصرارا ... تتفجر بعض الدموع ... تقوم بحضن بندقيتك ( لا تخذليني ... ) ...
الآن لا أستطيع حصر كل تفاصيل المعركة ...كل هذا النزف الهائل في الذاكرة و التاريخ.. كل الدماء التي سالت في الأزقة العتيقة ... كل المشاهد التي تداهمني من وقت لأخر ... مشهد محمود الذي أحس بالدماء تتفجر من عنقه فنطق بالشهادتين ثم حضن بندقيته ليغفو إلى الأبد ... رقصة كمال مع إيقاع انفجار الدبابة ... و عودته شهيدا ً .
آخر اللحظات و الاشتباك الأخير.... حين لم يعد هناك مكان يمكن الانسحاب إليه ... كان اشتباك فيه كرسنا منطق المقاومة حتى النهاية ... كنا ستة مقاتلين ... في نهاية معركة استمرت ستة أيام ... لم يستطيعوا فيها فرض السيطرة على أقل من كيلومتر واحد من الأرض ... في حين أنهم ضاعفوا حجم الأراضي التي سيطروا عليها في ستة أيام و هزموا ثلاثة جيوش عربية.. . لكنهم لم و لن يهزموا إرادة الفلسطيني ... و إن حشدوا كل الكون لمحاربته فسينتصر ...
لن يهزم الفلسطيني