وفجرت شرارة غضب العطشى قرية برج البرلس في محافظة كفر الشيخ شمال مصر، ثم انتقلت بسرعة إلى قرية بشبيش بمحافظة الغربية في قلب الدلتا، ومنها إلى قرى محافظة الدقهلية، ثم إلى قلب العاصمة القاهرة.
فعلى مدى سنوات عديدة، لم تتوقف مطالبة أبناء قرية برج البرلس والعديد من قيادات العمل الشعبي والتنفيذي بتوفير مياه شرب نظيفة.
ومع عدم الاستجابة لمطالبهم خرج أهالي البرلس مؤخرًا إلى الطريق الساحلي الدولي المحاذي لساحل البحر الأبيض المتوسط، وعرقلوا حركة السير، وأضرموا النيران في إطارات سيارات من الساعة العاشرة صباحًا، ورفضوا الاستجابة لتحذيرات السلطات حتى العاشرة مساء، حينما بدأت المحافظة ضخ المياه العذبة إلى قراهم.
وبهذا، نجحت احتجاجات الأهالي في إجبار الحكومة على تنفيذ مطالبهم العادلة، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الريف المصري المعروف عنه الخوف من بطش السلطة، بحسب مراسل "إسلام أون لاين.نت".
من جهته، أصر اللواء صلاح سلامة، رئيس جهاز مباحث أمن الدولة السابق، ومحافظ كفر الشيخ الحالي، على أن ما سماه "عصابات الاستيلاء على أملاك الدولة" وراء تحرك أهالي برج البرلس.
وشدد سلامة على أن لديه معلومات تثبت أن تلك العصابات خصصت مبلغ 3 ملايين جنيه لتحريك الأهالي بشكل جماعي بهدف الإطاحة به من منصبه.
لكن عبد الحافظ إبراهيم، أحد أعيان قرية برج البرلس، ينفي ذلك تمامًا، مضيفًا أن المحافظ أهمل عشرات الشكاوى والمطالب التي تقدم بها الأهالي إلى مكتبه.
فشل كلوي
وانتبهت القيادات المحلية بأنحاء مصر إلى مشكلة نقص المياه النظيفة بعد أحداث البرلس. ففي الأقصر جنوبي مصر، أعلن الدكتور سمير فرج، رئيس المدينة السياحية، اليوم الخميس 12-7-2007 تخصيص 25 مليون دولار لتوصيل المياه العذبة لكافة قرى البر الغربي من نهر النيل بعد أن ظلت تعاني نقصًا في المياه لسنوات طويلة.وجاء قرار رئيس المدينة في توقيت مناسب، حيث كان سكان قرى البر الغربي يستعدون لتصعيد مواقفهم ضد تجاهل الحكومة لمطالبهم، بحسب مراسلنا.
وفي محافظة الدقهلية المجاورة لكفر الشيخ، هدّد أهالي قرى مركز منية النصر والمنزلة، بتكرار سيناريو أحداث البرلس إذا لم تستجب السلطات لمطالبهم بتحسين ضخ مياه الشرب ومنع انقطاعها الذي يتواصل لأيام.
وقال ناجي عبد المنعم، النائب السابق بمجلس الشعب (الغرفة الأولى بالبرلمان) عن مركز منية النصر: إن مشاكل مياه الشرب في هذه القرى على مر السنين تسببت في مضاعفة أعداد مصابي الفشل الكلوي بين السكان، مشيرًا إلى أنها بلغت أعلى نسبة على مستوى مصر بأكملها؛ بسبب اختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الشرب بشكل دائم.
وحذر عبد المنعم من أن أزمة مياه الشرب تعتبر "الأخطر" مقارنة بمطالب عمال مصانع النسيج؛ لأن الأولى يترتب عليها صحة الإنسان، ولا يوجد لها أي بديل، بينما الثانية يمكن البحث لها عن بدائل، "ما يضاعف من حالة الغضب لدى كافة السكان المستعدين للدفاع عن أبسط حقوقهم في توفير مياه الشرب النقية بكل الوسائل".
أهم من الحوافز
وفي محافظة الغربية بدلتا مصر، اعتبر أهالي قرية بشبيش التابعة لمدينة المحلة الكبرى أن حل مشكلة مياه الشرب أهم بكثير من مشاكل ربع مليون عامل يطالبون بحوافز مالية في مصانع الغزل والنسيج.
وبدأ أهالي القرية، أكثر من مائة ألف، الإثنين 9-7-2007، اعتصامًا مفتوحًا غير آبهين بتهديدات أجهزة الأمن باعتقالهم، متمسكين بمطالبهم بتوصيل المياه النقية لمنازلهم.
وقال أحد منظمي الاحتجاج -رفض ذكر اسمه خشية الملاحقة الأمنية-: "أرسلنا آلاف الشكاوى ومئات التلغرافات (البرقيات) لكبار المسئولين، ونظمنا مظاهرة أمام مكتب المحافظ للفت الأنظار إلى مأساتنا لكن دون جدوى، مما دفعنا إلى تصعيد احتجاجاتنا تدريجيًّا في صورة إضراب عن العمل وتعطيل المصالح الحكومية".
وأضاف أن: "تحركًا إيجابيًّا جرى مؤخرًا وبدأت بوادر انفراج نأمل أن تكون جدية من جانب أجهزة المحافظة التي ظلت تتجاهل حقوقنا حتى تفشت الأوبئة الخطيرة بين الأهالي؛ بسبب عدم توافر مياه الشرب النقية لفترات طويلة".
وامتدت انتفاضة "العطشى" إلى العاصمة التي تضم أحياء تعاني العطش وندرة المياه، وليست أفضل حالاً من المناطق غير الحضرية.
ففي منطقة المرج بشمال القاهرة، ضاق الأهالي ذرعًا بتجاهل مسئولي الحي لشكواهم المتكررة بالانقطاع المتكرر لمياه الشرب النقية، وغرق بعض شوارع المنطقة بمياه الصرف الصحي منذ أكثر من شهر ونصف، مما أدى لإغلاق المحال في هذه الشوارع.
وسعيًا لتوصيل شكواهم لأعلى المسئولين، اعترض عشرات من سكان المنطقة موكبًا رسميًّا ضم وزير الإسكان أحمد المغربي، أثناء توجهه الأربعاء 11-7-2007 بصحبة اللواء عبد السلام المحجوب، وزير التنمية المحلية، والدكتور عبد العظيم وزير، محافظ القاهرة، لافتتاح محطتين للصرف الصحي.
وتدخل فريق حراسة الوزراء لإبعاد الأهالي، إلا أنهم تجمهروا مرة أخرى أمام سيارة المغربي، مما اضطره للنزول من سيارته لتهدئة الأهالي، واعدًا إياهم بحل المشكلة.
لا يصح
ودعا الكاتب المستقل مجدي مهنا، الرئيس المصري، حسني مبارك، بالإنفاق على مياه الشرب من الاحتياطي الإستراتيجي المصري من العملات الصعبة التي تقدر بـ28 مليار دولار، قائلاً: "إنه لا يصح أن يكون لدى الحكومة هذا المبلغ مخزنًا، وشعبها يعاني العطش".
وتعقيبًا على "انتفاضة العطشى"، اعتبر الدكتور نبيه العلقامي، القيادي بالحزب الوطني الحاكم، وعضو مجلس الشورى، في تصريح لـ"إسلام أون لاين.نت" أن "تحركات الأهالي أمر طبيعي ومشروع".
غير أنه شدد على ضرورة أن يتم ذلك "عبر القنوات القانونية، وبعيدًا عن قطع الطرق وتعطيل المصالح العامة؛ لأن ذلك يدخل في إطار الفوضى، ويشكل ظاهرة خطيرة لو أصبحت أسلوبًا لحل المشكلات في المجتمع".
يذكر أن في مصر حوالي 5 آلاف نجع وكفر أغلبها ما زال محرومًا من توافر مياه الشرب النقية، مما يشكل معاناة صحية وإنسانية للملايين من سكانها، وتُعَدّ قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة كما حدث في قرية برج البرلس
