قصه الزير سالم (ابو ليلي المهلهل ) (2)
فلما سمع تبع هذا الخبر شخر ونخر وتبدل بكدر واحمرت عيناه حتى صار مثل الجمر ثم ناداه فحضر وقد تعجب من عظم هيبته وبياض لحيته فسلم ربيعه عليه ووقف بين يديه فقال تبع أأنت سيد بني قيس الكرام فقال نعم أيها البطل الهمام وقال ولماذا أسأت الادب وإحتقرتني دون باقي أمراء العرب الذين تمثلوا أمامي وقبلوا يدي وأقدامي فتقدم الان وقبل رجلي يامهان وإلا قتلتك بحد الحسام وجعلتك عبرة بين الانام .
فقال ربيعه وقد استعظم ذلك الامر واحمرت عيناه من الغيظ حتى صارت مثل الجمر لانه كان من اشرفهم حسبا واعلاهم نسبا ثم قال اعلم ياملك الزمان بأنني ملك من ملوك العربان صاحب قدر وشان وماذلت نفسي لانسان وهذه هي وبلادي وملك أبائي واجدادي وأنا ماتعديت عليك وماأوصلت أذيتي اليك بل أنت شنيت علينا الغارة وأمتلكت بلادنا والحقت بنا الخسارة وذلك بدون سبب من الاسباب فكفى الذي فعلته أيها الملك المهاب وقد بلغت منا قصدك فلا أنت تقبل يدي ولا أنا أقبل يدك فلما سمع هذا المقال خرج عن دائرة الاعتدال وقال يانذل بني قيس ومن هو أذل من التيس أني ماأتيت من بلادي بهذا الجمع المتزايد الا لاجعل زمام الدنيا في قبضة ملك واحد ثم بعد هذا الكلام صاح على الاعوان والخدم بصوت كالرعد في الغمام ياويلكم اقبضوا على هذا الشيخ الكبير ومن معه من بني قيس الطناجير وقيدوهم بالجنازير فامتثلوا أمرة في الحال وقيدوا ربيعه وباقي الرجال وبعد أن قيدوه وأوثقوه أمر الملك بشنقه فشنقوه وهكذا انتهت حياته وانقضت أيامه وساعاته وبقي معلقا ثلاثة أيام حتى جاء نائبه الامير زيد الى الشام فغسله وكفنه ثم وراه التراب ودفنه ثم جاء في باقي الرجال وأرادوا أن يفعلوا بهم مثل تلك الفعال فانهزم الامير مرة من بين أيدي الفرسان وتقدم الى عند الملك تبع حسان وقال الامان ياملك الزمان نحن الآن عبيدك وطوع يديك وجميع أمورنا راجعة اليك فاعفوا عنا فقد صرت لنا ملك ثم انه ابعد هذا الحديث والكلام أشار يخاطبه بهذا الشعر والنظام :
مقالات لمرة في بيوت صروف الدهر قد جارت علينا
الايا أمير تبع يامسمى أيا ملك الورى في العالمينا
انا في جيرتك يافخر قومك أجبرنا لاتشفي الضد فينا
قتلت أخي ربيعه يامكنى وأسقيت العداء والحاسدينا
وتقتلني أنا ياأمير بعده تهد رجالنا طول السنينا
ونحن ياملك حكام مثلك على كل القبائل حاكمينا
فليس بواجب تهدم بيوتي ولاهذه فعال الماجدينا
وقد حاربنا وحكمت فينا ونحن اليوم في حكمك رضينا
وبعد اليوم صرنا لك رعايا على طول الليالي والسنينا
وندفع كل عام عشر المال كله فاحكم ماتريد اليوم فينا
(قال الراوي) فلما سمع تبع شعره ونظامه وعرف قصده ومرامه عفى عنه وأعطاه الامان وكذلك صفح عن باقي الامراء والاعيان وجعلهم من جملة الرعايا والخدام يدفعون له الخراج في كل عام وقال لمرة ياسيد القوم قد صممت أن أتخذ مدينة كرسي مملكتي بعد هذا اليوم فسر أنت وأهلك من هذه الديار وتفرقوا في سائر الاقطار وكونوا لاوامري طائعين ولحكمي خاضعين سامعين .
ثم أنه قسمهم الى عدة فرق وأقام على كل فرقه ملك من سادات بني قيس الاعيان فجعل الامير مرة على الفرقة الاولى وأمرة أن يسكن مع قومه في نواحي بيروت وبعلبك والبقاع وجعل الامير عدنان على الفرقه الثالثه وأمره أن يقيم قي بلاد العراق وتلك المنازل والافاق زكان الملك تبع قد شتت بنو قيس بهذه الوسيله خوفا من أن يقع في مكيدة أو حيله ثم أنه التفت على الامير مرة وباقي السادات وأشار اليهم بهذه الابيات :
يقول التبع المدعو اليماني أبا مرة لكم مني الامان
الا ياقيس روحوا لاتخافوا فقد سدتم على أهل الزمان
ربيعه أنت يامرة بداله كبير القوم من قاص ودان
وأولادهم لهم موضع أبوهم وأنت أكبرهم فيهم تعاني
ولكن خلق لاتسكنوها وكونوا في أمان مدى الزمان
فلما فرغ تبع من كلامه وشعره ونظامه أجابت بنو قيس أمره بالامتثال وتفرقت جموعهم في البراري والتلال وهم يبكون على ماجرى عليهم وما وصل من الاذى اليهم كانوا في أرغد عيش وأهناه وفي عز وجاه كلمتهم بين الناس مسموعه وروايتهم فوق هام المجد مرفوعه لايعرفون الهم والكدر ولايأخذهم قلق ولا ضجر الى ان اصابتهم البليه وحلت بهم تلك الرزيه فبكوا على تفرق بعضهم البعض وتشتتهم في أقطار الارض .
ومن غريب الاتفاق المستحق التسطير في الاوراق هو ماجرى للاربعه أخوة الذين اشتهروا من بني قيس بالحميه والنخوه وذلك أنه كان لزوجة الامير ربيعه المذكورة والد كليب والزير الفارس المشهور أربعة أخوه من الذكور وهم جوشن وناجد وجودر والامير منجد الاسد الغضنفر وكانوا من أجود الناس قد اتصفوا بالشجاعه وقوة البأس .
فلما رأوا أفعال تبع الشنيعه وكيف أنه قتل صهرهم ربيعه ساءهم ذلك الامر وتوقد قلبهم من الغيظ بلهيب الجمر ولكنهم أخفوا الكمد وأظهروا الصبر والجلد فحملوا بيوتهم وعيالهم وساقوا غنمهم وجمالهم وجدوا في قطع البراري والاكام حتى وصلوا بلاد الشام فنزلوا بقرب صيوان تبع حسان فقال لهم من تكونوا من العربان فقال له ناجد أعلم أيها السيد الماجد أننا من خيار العرب أصحاب الحسب والنسب وكان الامير ربيعه متزوجا بأختنا جميله وكنا على زمانه في نعم جزيله والان قد أمسينا في ذل وهوان ليس لنا قدر ولا شان وقد قصدناك وأتينا اليك وجعلنا اعتمادنا بعد الله عليك لعلك ترحمنا وترثي لحالنا وتبلغنا غاية آمالنا وتجعلنا من جملة الاعوان والعبيد والغلمان فتستقيم أمورنا بعد الذل والكدر ونحظى بالشرف الرفيع وبلوغ الوطن فأعجبه كلامهم وبلغهم مرامهم وجعلهم من جملة وزرائه وأكابر أمرائه وكان يستبشرهم في أكثر الاوقات ويفضلهم على الرؤساء والسادات وكانوا يترقبون الفرص ليأخذوا بالثأر ويزيلوا عن قلوبهم الغصص ولما بلغ تبع الغايه دخل الى مدينة الشام ونزل بالسرايه فطاعته العباد وخضعت له جميع البلاد وشاع ذكره في الاقطار وتحدث به الملوك الكبار واستمر على هذه الحاله مدة ثلاثين سنه تهاديه الملوك الاكاسرة وتهابه الملوك القياصرة .