ركب فارس مع إخوانه الكشافة الذاهبين الى مدينة نابلس في رحلة للتعرف إلى معالم المدينة، فحياه القائد وأجلسه الى جانبه في «الباص»؛ الحافلة.
وبدأت الرحلة وسط الأناشيد الحماسية، التي كنا نشارك بانشادها حينا ونمتع أنظارنا بجمال الطبيعة الخلاب حينا آخر، حتى شارفنا أحد المرتفعات، هنا أعلن قائد الكشافة بأننا وصلنا الى مشارف المدينة، فأستأذنت بالنزول، وبدأت المسير، وأنا أمعن النظر بما أشاهد من جبال ووديان مكسوة بالأشجار الحرجية والزيتون والفواكه. واشاهد بعض القوافل المحملة ببضائع مختلفة. وإذ بي أسمع صوتا يرحب بي قائلا:
نابلس: أهلا بك في مدينتك العريقة.
فارس: أهلا بك! فأنا مشتاق لزيارتك منذ مدّة طويلة، علّني أجد ضالتي المنشودة وأرجو الا أثقل عليك بزيارتي وكثرة أسئلتي.
نابلس: بالعكس، على الرحب والسعة. إسأل ما يبدو لك.
فارس: هلا شرحت لي سبب تسميتك نابلس، وماذا تعني؟
نابلس: أنا من المدن العريقة، يعود تاريخي الى الكنعانيين، وقد ذكرتني التوراة باسم شكيب، وتعني «المنكب». وفي العهد الروماني أمر القيصر «فاسبيانوس» ببنائي من جديد، وأسموني «فيلافا نيابولس» وفيافيا اسم عائلة. ونيابوليس تعني المدينة الجديدة، ومع الزمن تحرفت الكلمة الى نابلس الحالية وشكيم هي أول مدينة نزل فيها سيدنا ابراهيم الخليل بعد خروجه من حاران. «الكتاب المقدس الاصحاح الثاني عشر».
فارس: أعرف ان لك تسمية أخرى.
نابلس: نعم: يقول ياقوت الحموي «إنه كان يوجد واد فيه حية عظيمة جدا، وكانوا يسمونها بلغتهم (لس). فاحتالوا عليها حتى قتلوها وانتزعوا نابها وعلقوه على باب المدينة، وقيل هذا «ناب لس» أي ناب الحية ومع كثرة الاستعمال ومرور الزمن أصبحت نابلس.
فارس: وكيف بنيت؟
نابلس: بنيت مكان قرية بلاطة، كما تدل الحفريات والتنقيبات حيث وجدت سلسلة من المعابد الكنعانية التي تعود الى العصر البرونزي، يمكن القول إنها تعود الى القرن التاسع عشر ق.م في هذا الوقت احتلني المصريون.
وفي القرن الرابع الميلادي انتصر المسيحيون وانتشروا في جميع ارجائي وأصبحت مركزا لاسقفيتهم.
وفي القرن الخامس الميلادي بنوا على جرزيم كنيسة تخليدا لمريم العذراء وكذلك بنوا خمس كنائس تهدمت في الحروب السابقة.
فارس: وماذا عن موقعك ومناخك؟
نابلس: لقد بنيت على سفحي جبلي جرزيم وعيبال، وموقعي متوسط بين أخواتي مدن فلسطين، إني أقع ضمن إقليم المرتفعات الجبلية الفلسطينية، فيحدني شمالا جبل عيبال وقرية عصيرة الشمالية. ومن الجنوب جبل جرزيم وقرية قليل. ومن القرب قرية زواتا وبيت أيبا ورفيديا، وأما من الشرق فيحدني سهل بلاط وعسكر وواد البادان.
لذا أصبحت محطة لرجال القوافل قديما ومركز مواصلات مهمة في فلسطين، فأنا أبعد عن البحر الأبيض المتوسط نحو 42 كم وعن القدس 69ك وارتفع عن سطح البحر 550م أما بين جبلي عيبال وجرزيم فيوجد واد خصيب يعرف بالوادي الأخضر.
وقد إختار أجدادنا الكنعانيون هذا الموقع لثلاثة عوامل رئيسية، وهي: حصانة الموقع، ووفرة المياه الجارية حيث يوجد ما يزيد عن 22 نبعا نقيا والثالث هو وفرة مواد البناء الاساسية.
فارس: هذا بالنسبة لموقعك، فماذا عن مناخك؟
نابلس: مناخي معتدل كما هو الحال في مناخ حوض البحر الابيض المتوسط.
فارس: هلا سمحت لي بأن انضم الى اخوتي الكشافة فقد وعدتهم بأن نلتقي مساء كي نتسامر ونأكل الكنافة النابلسية الذائعة الشهرة، وغدا ان شاء الله نلتقي.
«استيقظ فارس في الصباح وبدأ يسير في شوارع المدينة، ولاحظ عن بعد الجبلين اللذين بنيت عليهما المدينة. واذا بصوت يستوقفه ويقول له: صباح الخير يا فارس، وأهلا وسهلا بك ثانية في مدينتك نابلس».
فارس: صباح الخير، كنت أسير في شوارعك أتأمل جبالك، علّني أجد ضالتي.
نابلس: آمل أن أساعدك في ايجاد ضالتك المنشودة.
فارس: ما دمت على استعداد للمساعدة، أرجو أن تحدثيني عن الجبال التي أمامي.
نابلس: هذا الجبل الذي في الجنوب يسمى جبل جرزيم، ويسمى أيضا جبل الطور أو الجبل القبلي، وهو الجبل المقدس عند طائفة السامريين التي لا وجود لها في أي مكان في العالم الا هنا، وهم الطائفة التي تؤكد أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قدم الى هذا الجبل وعزم أن يقدم ابنه اسحق أضحية لله تعالى. وهذا الجبل يرتفع 2900 قدما عن سطح البحر.
أما الجبل الثاني المقابل فهو عيبال، ويقع في الشمال ويسمى أيضا الجبل الشمالي ويبلغ ارتفاعه 3140 قدما. ولذا تجد أني أقع في واد ليس عريضا، يمتد من الشرق إلى الغرب.
فاس: سمعتك تقولين طائفة السامريين، فما هي هذه الطائفة؟ وهل استطيع زيارتهم؟
نابلس: سوف نصلها بعد قليل، نكون في أثناء سيرنا قد مررنا ببعض الآثار التاريخية.
فارس: إذن، أنت مدينة تاريخية عريقة وقديمة قدم التاريخ.
نابلس: فعلا، فهذا البئر الذي أمامك هو أحد المعالم التاريخية، ويسمى بئر يعقوب. وهو يتوسط السهل الذي يفصل بين جبلي عيبال وجرزيم. ومن المعتقدات السائدة: انه منذ القرن الرابع الميلادي حفر النبي يعقوب عليه السلام هذه البئر عندما جاء الى «شكيم» وكان عمقها 75 قدما. وعند هذه البئر التقى السيد المسيح بالمرأة السامرية، حينما غادر القدس الى الجليل عن طريق السامرة، ولهذا السبب تدعى «بئر السامرية».
فارس: أرى بعض الافراد ذاهبين الى مكان قريب من هنا، فما هو؟
نابلس: هذا المكان يبعد بضع مئات من الامتار، وهو قبر يعتقد أنه قبر يوسف «عليه السلام» وكذلك يعتقد أنه في هذا الوادي باع ابناء يعقوب أخاهم يوسف.
فارس: ما دمنا نسير الى مكان السمرة، هلاّ تحدثيني شيئا من تاريخك؟
نابلس: بسبب موقعي توالت عليّ الفتوحات، فقاومت كباقي أخواتي مدن فلسطين الغزاة والطامعين، على أرضي حدثت أشهر المعارك، مثل معركة مجدّو ومعركة أرسون، وعين جالوت، وصانور، ومقاومتي ضد نابليون وثورتي ضد ابراهيم باشا.
اما الفترة التي كنت فيها آمنة وديعة فهي فترة الفتح الاسلامي؛ حيث دخل عمرو بن العاص في القرن السابع الميلادي، وبقيت آمنة الى أن استولى عليّ الصليبيون بقيادة «تنكرد» وبنو فيّ مجمعا كنسيا كبيرا، ثم استولى عليّ صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين، وبعث اليّ ابن اخته حسام الدين وازدهرت بعهده إلى أن دمّرت زمن التتار، وكان قد أصابني دمار قبله في زلزال حدث سنة 1189 ومات من أهلي اكثر 30.000 نسمة.
بعد معركة مرج دابق احتلني العثمانيون، وبقيت تحت سيطرتهم حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، حين وقعت فلسطين تحت وصاية الانتداب البريطاني سنة 1918 وهكذا بدأت المعاناة.
فارس: أعتقد اننا وصلنا الى قمة جبل جرزيم.
نابلس: نعم! هذا المكان الوحيد من العالم الذي توجد فيه طائفة السمرة، والذين مر على ديانتهم أكثر من 27 قرنا، ويقولون بأنهم الاسرائيليون الاصليون، ويعتقدون أن اليهود انشقوا عنهم وأن اسمهم ليس السامريين بل «شامرم» أي السامريين المحافظين على الديانة القديمة، أما اليهود فيعتقدون كما جاء في التوراة ان السامريين ليسوا يهودا ولا من أصل يهودي، بل هم من المسبيين الذين أسكنهم سرجون الثاني ملك آشور مكان السامريين.
وهؤلاء لا يزيد عددهم عن عدة مئات. ويرى السامريون أنهم ورثة بني اسرائيل جميعا، وحملة التوراة العاملين بتعاليمهم ووصاياها العشر. وإن الله قد اختارهم لذلك، وأنهم هم البقية الباقية من الأسباط العشرة أولاد يعقوب «عليه السلام».
فارس: وما هي عقيدتهم؟
نابلس: تقوم عقيدة السامريين على خمسة أركان، هي: وحدانية الله نبوءة موسى قداسة جبل جرزيم والايمان بأن الخمسة أسفار الأولى من العهد القديم (التوراة) منزلة من الله والإيمان بيوم الدينونة والبعث وانه لا ريب فيه. وزيادة في معلوماتك. فالسامريون حسب الدستور الأردني يتمتعون بكل حقوق المواطنين الأردنيين لا فرق بينهم وبين غيرهم.
فارس: أشكرك على هذه المعلومات القيمة عن طائفة السمرة، ولكنك لم تخبريني حتى الآن عما اشتهرت به.
نابلس: إنني أشتهر بصناعة الصابون، وهي من أقدم الصناعات المعروفة بجودتها، ولا يذكر الصابون والا ويذكر معه «الصابون النابلسي».
وفي السابق اكن يسمى الصابون الغاسول، وكان يصنع من «القلى» وبعدها يمزج مع الزيت والشيد والماء، ثم يخمر لمدة 24 ساعة ثم يصب في احواض وتوقد تحتها النار: وصنّاع الصابون هم الذين يعرفون الخطوات المطلوبة، والمقادير لكي يخرج الصابون النابلسي الممتاز.
هذا ولا تنسى أني أشتهر بصناعة استخراج الزيت من الزيتون وكذلك صناعة الكبريت ومعامل السمسم وطحن الحبوب، وصناعة الحلويات وبخاصة الكنافة النابلسية.
فارس: وما هي صفاتك؟
نابلس: دائما أنا جذوة متقدة وشعلة غضب تحرق كل محتل غاصب، سجلي حافل بالبطولات التي سطرها الشعب الفلسطيني بدماء الآلاف من الضحايا الذين أنتمي اليهم.
كما أني كنت دوما وأبدا مرتع الأدب الأصيل، وقد لمعت منيّ أسماء شعراء وأدباء التزموا بقضية شعبهم فكان لهم أثر بارز في الحركة الثقافية.
فارس: هلا حدثتني عن التعليم والعادات والتقاليد؟
نابلس: سكاني كما تعلم كبقية سكان فلسطين يعودون بنسبهم الى العرب القحطانية والعدنانية المأثور عنهم الحضارة والعلم.
مدارسي كثيرة وقد كانت مدرسة النجاج أبرزها وقد تحوّلت الى جامعة تعدّ من اكبر صروح العلم. إضافة الى مدرسة صناعية ومدارس تابعة لوكالة الغوث الدولية.
ومن العادات والتقاليد التي محيت الآن عادة حفظ وختمة القرآن من الصف السادس الابتدائي، وتقام الاحتفالات والمراسيم لهذه المناسبة كل سنة، تستمر ثلاثة أيام.
فارس: ألك لهجة أو لهجات مميزة فصيحة؟
نابلس: نعم، فأنا أتقن لفظ حرف (الضاد) وهذه ميزة أصيلة وعريقة في اللهجة العربية، وعندي الإمالة الكبرى فهي لجهة واردة في القراءات القرآنية السبع مثل عيسه (عيسى) وموسه (موسى) وأني بدلا من أنا.
إوما دمنا تحدثّنا عن بعض الآثار فلا أنسى أن أذكر انه يوجد بالقرب مني قرية سبسطية المشهورة بالآثار التي بناها هيرودوس الكبير وهو الذي بنى قيسارية ايضا.
فاس:: وكم تبعد سبسطية عن وسط مدينة نابلس؟
نابلس: تبعد حوالي 10كم، ومن القرى المحيطة بي والمهمة أيضا: قرية حوارة، دير شرف، طوباس، طلوزة، عصيرة القبلية وعصيرة الشمالية، ثم عقربا، فباقة الحطب، وبرقة، وكفر قدوم، بيت دمية، وبيت فوريك، وسلفيت.
فارس: إن شاء الله وإن سنحت لي الفرصة سأزور منها ما يسمح لي به وقتي.
فارس: وما هذا البناء الطويل المرتفع الذي أشاهده أمامي؟
نابلس: هذه هي منارة الساحة التي بناها المجلس البلدي بمناسبة عيد جلوس السلطان عبد الحميد.
فارس: أرجو أن تذكري لي بعضا من أحيائك المشهورة التي سمعت عنها.
نابلس: يوجد فيّ حي الياسمينة، وقد حدّثه الأهالي وبنوا فيه أبنية جديدة. ثم حي الشويترة المعروفة بحارة الغرب، وحي الحبلة، وحي القيسارية، وحي العقبة، وحي القريبون.
والمشهور عن مدينة نابلس القديمة كثرة الأزقة المعتمة والاسواق الضيقة والأبنية المتلاصقة، وكثرة أسواقها التجارية مثل حي القصبة.
فارس: وما أسماء الجوامع المنشأة على أرضك.
نابلس: الجامع الصلاحي الكبير وجامع الخضراء ويقع في حي الياسمينة، وجامع النصر وجامع الانبياء في الحلبة، ويقال أن أولاد يعقوب «عليه السلام» قد دفنوا فيه. ثم جامع الساطون و(36) مسجدا آخر موزعة في أنحاء المدينة ومقامات الشيخ بدران ومجيد الدين والشيخ غانم.
نابلس: أنظر يا فارس الى تلك القرويات وإلى ما يرتدينه.
فارس: إنه لباس غريب وجميل.
نابلس: هذه الملابس خاصة بالقرى، فكل منطقة لها ملابسها الخاصة بها والزي الشعبي لها. فمثلا هذا الزي يسمى الثوب أو الخلق. وكذلك يوجد السروال، ويتميز بأنه واسع من قماش مزخرف بمربعات زرقاء في الغالب، وفتحت الأرجل مزمومة، والصبايا غالبا ما يلبسن الخلق المعرّق أو السّادة.
فارس: الحمد لله أني تعرفت الى مدينة عريقة، وان شاء الله سوف أعود اليك قريبا، ولكني الآن أنوي السفر للبحث عن ضالّتي المنشودة في مدينة أريحا، وقد قارب موعد التقائي مع إخواني الكشافة.
نابلس: رافقتك السلامة، أنت وإخوانك الكشافة، آملا أن تجد ضالتك المنشودة، وإلى لقاء قريب مع النصر.
فارس: شكرا لك يا مدينة النضال، يا جبل النار على حسن ضيافتك لي.