[/size]
لم يقدم اختراعًا، ولم يفعل ما فعله كثير من المشاهير، ولم يتجاوز الثانية عشرة من عمره ولكن ,محمد الدرةأصبح في لحظة من اللحظات حديث العالم كله،من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه.
باستشهاده اختصر آلاف المشاهدوالمآسي التي سجلها الصهاينة في حق الشعب الفلسطيني، وعرض بموته صورة حية لطبيعةالعدو الصهيوني التي نسيها أو تناساها البعض، وليكون بذلك شاهدًا ودليلا آخر لأولئكالذين ما زالوا يتوهمون بأنه قد يكون سلام مع عدو يقتل ويغتال الأطفالوالأحلام.
النشأة: في المخيم
في وسط مخيم البريج في قطاعغزة الذي تقطنه أغلبية ساحقة من اللاجئين، عاشت أسرة الشهيد محمد الدرة التي تعودفي أصلها إلى مدينة الرملة، والتي احتلت وطرد أهلها منها عام 1948، وهي مكونة منأبيه وأمه وستة من الأبناء سواه هم إخوة محمد: إياد"14 سنة" في الصف الثانيالإعدادي، وأحمد "10 سنوات" في الصف الرابع الابتدائي، وآدم "9 سنوات" في الصفالثالث الابتدائي، ونور"7 سنوات" في الصف الأول الابتدائي،و بسمة "4 سنوات" فيالروضة، وباسم " سنتين".
وتعيش الأسرة في بيت متواضعفارغ من كل شيء عدا البؤس والحرمان كما بقية البيوت في مخيمات اللاجئين الفلسطينيينفي كل مكان، استقبلتنا فيه سيدة في الثلاثينيات من عمرها تتشح بسواد لا يختلف عنذلك الذي اكتنف المخيم بأكمله.. كانت عيناها داميتين ووجهها المغسول بالدموع يقصحكاية لاجئ ما زال يعيش نكبة تلو نكبة.. كانت تحتضن كتبًا مدرسية لطالب في الصفالخامس الابتدائي وتقول لنسوة أخريات كن يساعدنها في الوقوف على ساقيها المثقلتين: "طلب مني أن أساعده في حل أسئلة المدرسة، وغادر إلى أبيه لشراء السيارة بعد أنألبسته ملابس تناسب السيارة الجديدة".
احتضنت أم محمد ما تبقى منأطفالها وقالت: " كان أكثرهم مشاكسة، أقربهم إلى قلبي.. الله يسامحه كان يهرب منالمدرسة، ولكن وعدني هذه السنة أن يلتزم، وطلب مني أن أساعده في حل الواجب.. كلالجيران أحبوه، ويقولون: "يعوض الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل".
ولم يتسع بيت محمد الذي لايتجاوز 50 مترًا مربعًا لأعداد الأمهات اللواتي أتين للوقوف إلى جانب أم محمد، ومعذلك لم تستطع أي منهن دخول غرفة محمد الصغيرة أو استخدامها لاستقبال العزاء.. فكتبهوملابسه وصوره التي تزدان بها جدران الغرفة كانت أكبر من أن يحتملها قلب أو تنظرإليها أعين دون أن تنفطر دمًا.
ومن أمام باب غرفته قالت لناخالته: "هنا كان ينام.. وهنا كان يأكل.. وهنا كان يدرس.. وهناك التقطنا له الصورةالأخيرة مع أخوته".
كانت الغرفة التي لا تتجاوزالثلاثة أمتار خالية تمامًا من أي مقعد أو مكتب للدراسة أو خزانة للملابس أو حتىسرير للنوم، فهي لم تحتوِ إلا على فُرُش صغيرة بالية، وعلى حقيبته المدرسية، وبضعةكتب وكراسات مدرسية تنتظر قلم محمد.
الطفل المشاكس
كان من المعروف أن محمدًا منالأولاد الأشقياء الذين يحبون بل يعشقون اللعب والبحر، "وكان دائمًا يحب الذهاب معيإلى البحر، وكان شجاعًا وجريئًا، ولا يعرف الكذب، وكان عنيدًا يهابه الأطفال فيسنه، ومن هم أكبر منه سناً"، هكذا يقول عمه نائل ويضيف: "كان يحب الأولاد من جيلهكثيرًا، ويحب أن يلعب معهم بشكل دائم، وكنت وعدته وهو في الصف الخامس أن آخذه معيإلى مصر، إذا نجح في دراسته، ولكن ليس له نصيب، فقد رسب في الصف الخامس، وهذاالرسوب غير كل حياته، فصار يقول لأمه: أنا أريد أن أقرأ، وأنا بدي أصير وأصير...إلخ ".
"إن محمدًا منذ ولادته كان "حِرِك " ونشيطًا ومختلفًا عن كل أخوته، وكان دائماً يحب الخروج واللعب مع أصدقائه،وكان يحب أكلات معينة ويطلبها ونحضرها له، وكان يحب المدرسة ويحب اللعب بالكرة،وكان عندما يعود من المدرسة يحب أن يركب على الدراجة، بل كان يتشاجر أحياناً هووأخوه الكبير من أجل ركوب الدراجة، وكان أبوه يخاف عليه كثيرًا، ولا يحب أن يخرجبالدراجة بحكم أن بيتنا في المخيم على الطريق الرئيسي، وكان إذا منعه أبوه منالخروج، يخرج الدراجة من الشباك، ثم يخرج هو من نفس النافذة ليلعب في الشارع" هكذاتحدثت والدته عنه.
كانت أمنيته الشهادة
تقول والدته: "سبحانالله، كل حياته كانت ذكرى، وكل حركات محمد لم تكن حركات ابن دنيا، فقد طلب الشهادةقبل سنة، أي أيام أحداث نفق القدس، وكان يقول: نفسي أموتشهيدًا، وهذه المرة وقبل استشهاده بثلاثةأيام قال لي: يا أمي؛ الذي يذهب عند نتساريم وعند المستوطنين ويموت يكون شهيدًا ؟!" تقول والدته: "لم أرد عليه ساعتها، خفت؛ لأن ابني من النوعيات الجريئة، نعم هو صغيرما زال في الصف الخامس، ولكنه في نظري شاب ورجل، ومن الممكن أنه يذهب هناك، فكنتأخاف عليه كثيرًا، وأما آخر كلمة تحدثها معي فهي: إلى أين يريد أبي الذهاب؟ فقلتله: أبوك يريد الذهاب لشراء سيارة بدل التي بعناها. فسُرَّ وفرح، وكان طول نهار ذلكاليوم يذهب خلف أبيه أينما ذهب، ولم أعلم أنه خرج مع أبيه إلا بعد ساعة، حين سألتإخوته، فقالوا لي: إن محمدا خرج مع أبيه، فعندها اطمأننت عليه؛ لأنه شقي، وطالماهو مع أبيه فإذًا سيكون بخير".
الطفل الرجل!!
" لقد كان كالرجال في تصرفاته" هكذا قالت جدته أم هشام، مستذكرة أنه صمم في يوم من الأيام على منعها من قطع شجرةفي منزلها، وتولى المهمة بدلا عنها، فيما كان يستغل فترة الإجازة الصيفية في الذهابمع أعمامه للعمل في ورشة لصناعة الألمونيوم.
وتضيف الجدة: "لقد كانشديد الطاعة رغم شقاوته، يحب المبادرة ويكره الأنانية؛ لذا كان محبوبًا من الجميع: الأهل،والأصدقاء، والجيران، إلا أن حب الله عز وجل فاق حب الجميعفاصطفاه عنده.. الله يرحمه".
بينما تقول جدته أمجمال: "إن الشهيد محمدا كان يمتلك حبًّا خاصًّا من الجميع؛ نظرًا لتعامله الحسنمعهم،ربما لأنه كان يرغب في ترك ذكرى طيبة وحسنة له فينفوسهم!" وتضيف: "لقد كان متيقنًا من اقتراب انتهاء أجله، أصر علىالذهاب مع والده إلى سوق السيارات في غزة وطلب بدلةجديدةبمناسبة زواج أحد أعمامه،إلاأنها كانت البدلة التي سيزف بها إلى الجنة".
وتضيف الجدة أم جمال: " كان مرحًا حتى اللحظات الأخيرة في حياته، يحب المزاح حتى عندما يتعلق الأمربمصيره". وقد تمتع الشهيد محمد ورغم صغر سنه، بجرأة غيرعادية.
الهواية والأصدقاء
كان محمد يهوى العبث بكل مايقع تحت يديه من أدوات كهربائية، فيفككها ليعرف كنهها، وحول ذلك يقول عمه نائل: "لقد كان محمد طفلا غير عادي في الجرأة التي يتمتع بها، وكانت قدرته على التحملكبيرة جداً خاصة عندما يحصل له ألم ما، ولديه عقلية أكبر من سنه، وذهنيته متفتحة،وأصحابه دائمًا أكبر من جيله، وكما يقولون كان -رحمه الله- "كثير غلبة"، وكانيستطيع تصليح ما يقع تحت يده من أدوات كهربائية ولعب وغيره، وكان أحلى الأماكن لهالبحر، وكذلك كان يحب أكل السمك، وكان له الكثير من الأصدقاء؛ حيث كان محبوبًا منالجميع ومن أصدقائه: مدحت عماد، محمود خليل العالول، سعيد الداموني، ضياء الدرة،علي أبو جبارة، ناجي جمال.
وفي مدرسة البريج الابتدائيةالتي كان يدرس فيها لمسنا بالفعل مدى المحبة التي كان يتمتع بها محمد بين زملائه فيالمدرسة، "محمد كثير الأصدقاء في المدرسة، وكان دائمًا بمثابة قائد هم وصاحب الكلمةعليهم" حسب قول شقيقه أحمد "10سنوات" وأكثر الأخوة قربًا من محمد.
ولمسنا كذلك من خلالكراسة الرسم الخاصة بمحمد، والتي حملت على غلافها قبة الصخرة مدى العشق الذي كانتتحظى به قبة الصخرة والقدس لدى محمد، حتى إنه في هداياه في المناسبات المختلفة كانيختار لوحات ومجسمات قبة الصخرة-كما أخبرنا ذووه وأمه التي أضافت: "أهداني مجسمًا لقبةالصخرة في عيد الأم الفائت"-.
"عصفور في الجنة"
وأكثر ما أدهشنا كلماتقليلة نطق بها أحمد الشقيق الصغير لمحمد، عندما رد على سؤالنا: "أين أخوك محمد؟" فقال:"إنه في الجنة.. يا ريتني معه".
وعندما سألناه: "لماذايتحدث الناس عن محمد؟" أجاب بكل ثقة وفخر: "لأنه مات مناليهود"،ورد على سؤال آخر: "اليهود بيقتلوا الفلسطينيين علشان القدس، والقدسعاصمة فلسطين"، إجابات صدرت بكل براءة عن الطفل "أحمد" المشهوربصدام.
ويبدو نور ذو الأعوامالسبعة متأثرًا بكلام سمعه من والدته من قبل ويقول بكل بساطة: "اليهود قتلوا أخيمحمدًا، لكنه ما مات، هو في الجنة بيلعب مع الطيور"، فيما تقول شقيقته بسمةذات الأعوام الأربعة: "أنا صحيت محمد من النوم،أنا بحبه أكثر من البحر، ولما أكبر شوي بدي أروح لعنده".
وحول بسمة تقول والدة الشهيد: إنها في اليوم الذي استشهد فيه شقيقها محمد ألحت عليه لإيقاظه من نومه، وأخذتتحتضنه وتقبله، ربما أنها أدركت مسبقًا أنها المرة الأخيرة التي سترى فيها شقيقهامحمد.
وفي الشارع أمام بيتالشهيد وقف أصدقاء محمد، وسارع أحدهم إلى التأكيد لنا وهو طفل لا يتجاوز العاشرة منعمرهعلىأنمحمداً يقود سيارة جديدة في الجنة بدلا من تلك التي حرمه منها رصاصالاحتلال،وأضاف بعفوية وبعينين دامعتين: " إناليهود قتلوه، وإن الله اختاره للجنة ".
الجريمة: القصة الكاملة والطريق إلى الجنة
"ما كنت أتوقع أن يحدث لي ماحدث (وخنقته العبرة) لكن هذا ما قدر الله لي ولولدي" هكذا تحدث والده جمال حولالجريمة وكيف حدثت؟ وكيف استشهد محمد؟ واللحظات الأخيرة في حياة الشهيد، والوالد"جمال" ما زال يتلقى العلاج في مستشفى مدينة الحسين الطبية في الأردن، وقد بدا عليهالإعياء الشديد، ولم يصدق أنه ما زال حيًّا بعد غارة القصف الصهيوني، ومقتل نجلهمحمد وهو يحتضنه ويحاول أن يذود عنه الرصاص الإسرائيلي من كل صوب، ويقول جمال: "لقدكنت أحبه كثيرًا ولم أكن أتصور أن أفقده بهذه الطريقة المؤلمة"، ثم يضيف: "كنتخارجًا من أجل الذهاب إلى سوق السيارات في مدينة غزة لشراء سيارة، وآثرت هذه المرةأن أصطحب محمدًا - 12عاما - وركبنا سيارة إلى غزة غير أننا عندما وصلنا مفترقالشهداء قرب مستوطنة نتساريم كانت الاشتباكات على أشدها بين المتظاهرين الفلسطينيينوالقوات الإسرائيلية، فأخبرني سائق السيارة أنه لا يستطيع عبور الطريق خشية أنتصيبه رصاصة طائشة، وطلب من الركاب النزول فنزلنا فقررت العودة إلى منزلي، فأمسكتبيد ابني وحاولت المرور إلى الجانب الآخر من الشارع، لكن في منتصفه انهالت علينازخات من الرصاص من البرج العسكري الإسرائيلي، فجررت ابني بسرعة إلى برميل كانموجودًا على حافة الطريق، واختبأت وراءه، وضممت ابني مخافة أن يصيبه الرصاص، لكنيبدو أن الجندي الإسرائيلي الموجود في البرج وجد أننا صيد سهل، أخذ يرمينا بحمم منالرصاص حتى إنني أخذت أردد الشهادتين، وأخذ ابني محمد يصرخ من الخوف والفزع الذيأصابه؛ لأن الرصاصات أخذت تقترب منه شيئًا فشيئًا.. أخذت أصرخ على الجنودالإسرائيليين أن توقفوا، لكنهم استمروا ثم رفعت يدي عاليتين من أجل أن أريهم أني لاأشكل عليهم خطرًا، غير أن الجندي الإسرائيلي عاجلني برصاص في يدي اليمنى في ذلكالوقت اتصلت عبر الهاتف النقال الذي كان معي بأحد الصحفيين، وطلبت منه أن يعمل علىإرسال سيارة إلى المكان الذي نحن فيه لإنقاذنا، غير أن سيارة الاسعاف لم تستطعالوصول إلينا؛ لأن الاشتباكات كانت على أشدها، كما أن الجنود الإسرائيليين لميتوقفوا عن إطلاق الرصاص على سيارات الإسعاف، حاولت الانسحاب من المكان مرة أخرىغير أنني لم أفلح؛ لأنني كنت أعلم أنني إذا ما رفعت رأسي فإن رصاصة بانتظاري، كانالشبان ينظرون إلي وإلى ابني ويصرخون، غير أن الرصاصات ازدادت كثافة وسرعان ماتلقيت رصاصة أخرى في يدي الأخرى، ابني الذي كنت أعمل المستحيل من أجل إبقائه بعيدًاعن مرمى الرصاص أخذ يواسيني ويحاول أن يخفف عني؛ لأنني كنت أنزف، رغم أنه كان يبكيمن شدة الخوف ومن أزيز الرصاص الذي لم يصمت للحظة".
لا تخف يا أبي!!
وأضاف والد الشهيد محمد: "قاللي قبل استشهاده بلحظات: اطمئن يا أبي أنا بخير. ولوحت بيدي كثيرًا إلى الجنود بأنيوقفوا إطلاق النار وصرخت لأسمعهم: الولد مات.. الولد مات.. لكن دون جدوى" واستطردبالقول: "كان يحاول التخفيف عني بالقول: لا تخف يا بابا احمِ حالك "أي نفسك". كانيلتصق بي وكنت أحاول إبعاده عن الرصاص، لكن رصاصة أصابته في ساقه، فصرخت بأعلى صوتيوبكيت، ولكن لا فائدة فحاول تهدئتي، وكانت آخر كلماته لي: " لا تخف يا بابا.. إجترصاصه برجلي بيهمش.. المهم خبي حالك أنت".
ويضيف الدرة: "كنت أخشى اللحظةالتي تخطف فيها رصاصة ابني مني، فأخذت أضمه إليّ غير أن الرصاصات عاجلته وألقتهصريعًا بين يدي" مشيرًا إلى أن ابنه عندما أصيب قال له: يا أبت أنا أتحمل حتى تأتيسيارة الإسعاف. غير أن نزيف الدم كان سريعًا فلم يلبث أن فارق الحياة".
وقال: "لم أعرف ماذا أفعل؟ فلاأنا قادر على النهوض، ولا أنا قادر على فعل شيء لابني، ولم يطل التفكير بي كثيرًا؛إذ سرعان ما تلقيت رصاصة أخرى في ظهري، ففقدت وعيي، وبعدها لم أستيقظ إلا وأنا فيالمستشفى".
هكذا كانت اللحظات الأخيرة منحياة الشهيد محمد الدرة، وتلك هي الكلمات الأخيرة لوالده: "اطمئن يا أبي أنابخير" من كان يدري ربما يشير بهذه الكلمات إلى أنه فعلا سيكون بخير؛ لأن عينيهلن تريا الاحتلال بعد الآن؟
[size=6]