من يصنع التاريخ؟ الأشخاص أم الشعوب؟ ماركس أحد أكبر العقول المفكرة في العصر الحديث قال ان التاريخ فعل شعبي. غير أن إرهاف السمع لوقع الأقدام على أرض التاريخ يؤكد دور الشخص أو البطل التاريخي. ماركس نفسه غيَّر التاريخ. قلب الفكر السياسي بفرزه الدقيق للصراع الاجتماعي. رآه صراع طبقات. وطرح حسمه بالحل الثوري، فصبغ التاريخ بالدماء.
لا أنكر دور الشعوب، لكن أحاول أن أركز على الأشخاص الذين يتأثرون بالشعب ويؤثرون به. من هنا تركيزي في ما أكتب على دور الشخص التاريخي. وفي الصحافة، كتبت عن دور عمالقة الصحافة. غير أن الكتابة عن الأشخاص تفرض على الكاتب معرفة تامة وشاملة بالشخص دراسةً وتأملاً، وبقدر كبير من الشجاعة غير المجاملة المرفوضة غالبا من الناس المنحازين لهذا الشخص أو ذاك، ثم تفرض على الكاتب التحلي بقدر كبير أيضا من الأمانة اللامتوفرة غالبا بكتاب السياسة والصحافة.
أنا اليوم مع فاروق القدومي. رجل ساهم في صنع تاريخ منظمة قادت بجدية كفاح شعب، وسارت به من الحرب الى السلم، ومن الحل الشامل الى التسوية الجزئية المنفردة، وحاولت أن تكون مستقلة عن عرب التدخل والوصاية، بقدر ما اجتهدت هي في التدخل الكارثي في شؤونهم. ثم انتهت اليوم الى مرحلة من التفكك والضياع والانقسام والصراع الداخلي، مرحلة تعرفها كل الأنظمة والمنظمات التي لا تعرف كيف تجدد نفسها وفكرها وتنظيمها، كي تتأقلم مع المتغيرات.
لعلي أجامل فاروق القدومي عندما أستعير من لطف «أبي اللطف»، فأقول إنه ساهم في صنع التاريخ. الواقع انه ساير وواكب صُنَّاع التاريخ الفلسطيني. وظل دائما الطائر المهاجر المغرد خارج السرب، الناقد لعرفات، لكن يظل عنده الرمز والقائد.
عاش «أبو اللطف» لطيفا مع الجميع، من دون أن ينحدر الى المضاربات اليومية في سوق السمسرة الفلسطينية، إلا في مرحلة محمود عباس الذي كان يوما مساعدا له في قطاع السياسة الفلسطينية قوميا ودوليا. ربما العمر (77 سنة) الذي يجعل أكبر قادة فتح سنا يناصب العداء رجلا عجوزا (أبا مازن) ومثله الذي ظل هو أيضا على هامش السلاح، ثم كان أسعد أو أسوأ حظا من أبي اللطف، فأصبح قائد المسيرة السياسية في المرحلة الأصعب، مرحلة ما بعد عرفات.
لماذا يختلف القدومي مع عباس؟
أبو اللطف يشابه عباس في المزاجية الحساسة والمرهفة جدا التي لا تناسب محترفي السياسة. كلاهما ناج من القتل والاغتيال بسلاح الرفاق والأعداء، ربما لأنهما حملا الحقيبة بدلا من البندقية. وكلاهما لا يملكان قاعدة شعبية واسعة، لكن الخلاف بينهما في الرؤية السياسية يلقي بظلاله على قضيتهما العادلة، وعلى العلاقة الشخصية بينهما. لعله حسد القدومي لعباس ورغبة عباس في التخلص من القدومي الأكبر والأنزه والأكثر احتراما بين القواعد والقيادات.
كسل القدومي من كسل عباس. كسلهما الثوري ومزاجيتهما المرهفة وهشة الانكسار ساعدتا عرفات الأدهى والأكثر معرفة بالناس على تحييدهما سياسيا وتنظيميا، ثم على استخدامهما عندما تقتضي الحاجة إليهما. وهكذا ظل أبو اللطف ينفي ولا يدري الى آخر لحظة ما حدث من وقائع على فراش الزوج المخدوع في أوسلو، فيما كان عباس منهمكا في تحقيق حلمه السياسي الذي لم يتحقق بالسلاح: التسوية السلمية مع اسرائيل، بأقل قدر من التنازلات.
عندما اكتشف الزوج المخدوع «الخيانة» رفض الاعتراف بثمرتها «المسمومة». ورفض العودة مع عرفات وعباس والرفاق من تونس إلى الأرض المحتلة. كان رهانه على فشل أوسلو صائبا، لكن خصومه يرجعون عدم عودته الى كسله وإيثاره الراحة، ولأن أعصابه لا تتحمل وطأة الصدام مع الاحتلال أو مع حماس والجهاد. ولعلي أكشف سرا عندما أقول إن لأبي اللطف تاريخا من الانهيارات العصبية التي اقتضت علاجا طويلا، ولا سيما في السبعينات والثمانينات، بعد الصدامات الدموية مع الأردنيين والسوريين واللبنانيين.
فاروق القدومي حامل الهوى المتعب. بعثيته القديمة منحت فكره السياسي بعدا نظريا قوميا، فجعلته استثناء بين الرفاق. القدومي صائب الرأي في رهانه القومي. هو يعرف من خلال قراءاته ان فلسطين لم يحررها تاريخيا الفلسطينيون، انما تحررت بوحدة القيادة في مصر وسورية.
درس القدومي الاقتصاد في جامعة القاهرة الأميركية. عمل موظفا ومستشارا اقتصاديا في ليبيا والسعودية (أرامكو) وخلال عمله في الكويت، حدث اللقاء التاريخي مع عرفات عندما شاركا مع رفاق (رحلوا) في تأسيس فتح (1965).
في صراع القدومي الذي يمثل المرجعية الثورية مع عباس الذي يمثل المرجعية السياسية المنتخبة شعبيا، يلجأ الرجلان الى أساليب لا تتفق مع الأخلاقية الشخصية التي يحرصان عليها. حاول عباس تحييد نفوذ القدومي بتجريده من سلطته على التمثيل الديبلوماسي في الخارج. في المقابل، دعا القدومي سفراءه الى العصيان على توجيهات ناصر القدوة وزير خارجية عباس. رد «المجلس الثوري« لفتح بتجريد القدومي من لقبه كرئيس لفتح، واعتقل الأمن الوقائي مدير مكتبه في غزة عندما حاول إنشاء ميليشيا للقدومي. الواقع أن القدومي أمين لسر فتح، وبالتالي فهو يعتبر رئيسا لها، بعد غياب عرفات.
كان الخلاف كارثيا. أصيبت أنجح ديبلوماسية عربية بشلل البلبلة نتيجة للصراع المؤسف. ووصل الأمر الى التشاكي لدى كوفي انان حول اختيار ممثل فلسطين في الأمم المتحدة. القدومي الذي يرتبط بعلاقة وثيقة جدا مع سورية (والى حد ما مع عراق صدام) حرض دمشق على عدم فتح سفارة لعباس فيها.
حُكم القدومي بالفشل على أوسلو، وطهره الثوري، وسمعته الطيبة، ثم نظافته التي تضعه فوق مستوى فساد بعض رجال السلطة والأجهزة الفلسطينية... كل ذلك لا يجعل أحكامه ورهاناته كلها صائبة وخالية من التناقض، أو من عدم اتفاق التكهن مع الواقع المتشكل على الأرض.
القدومي يقبل بالتفاوض. يقبل بالتسوية المرحلية في استحالة الحل التاريخي. يرفض أوسلو. يساير «خريطة الطريق»، ثم يعتبرها «عملية إلهائية ووهمية لكسب الوقت»! مع الحوار مع اميركا، وكان ضدها في حرب العراق (حيث خسارة بوش فيها مؤكدة). القدومي ضد حصار سورية. يقول ان لا سلام ولا استقرار في المنطقة، من دون تسوية مع سورية. القدومي يقبل بالتسوية المرحلية على أساس انسحاب شامل، لأن الانفراد أضر بالقضية.
في محاولته اجتذاب جيل الشباب ضد جيله وجيل عباس، يدعو القدومي الى استمرار الانتفاضة. غير أنه أخطأ في الرهان على عدم انسحاب اسرائيل من غزة. ضعف القدومي يرجع الى انقطاع صلته مع جيل الخط الأول الميداني الذي يراهن عليه، نتيجة لعدم عودته الى الأرض المحتلة، ثم ضعفه من ضعف سورية التي تسانده.
في الحب، على العاشق أن يعرف كيف يختار الفرصة المناسبة لتقبيل الفتاة. في السياسة، على السياسي أن يعرف كيف ومتى يعتزل السياسة. وإذا كان لي من رأي شخصي لا يرتبط بسياسة وغير منحاز لعباس، فلعل الخير للقدومي ولقضيته أن يُحظى باستراحة ذاتية أو إجبارية. فما تبقى من العمر هو بعض الزيت المشتعل الذي يثير منارة الاكتفاء بالرؤية البعيدة والتفكير العميق اللذين يخدمان فعلا القضية، نأيا بنفسه عن عصاب الصراع مع السلطة والمتغيرات.
غسان الإمام
لا أنكر دور الشعوب، لكن أحاول أن أركز على الأشخاص الذين يتأثرون بالشعب ويؤثرون به. من هنا تركيزي في ما أكتب على دور الشخص التاريخي. وفي الصحافة، كتبت عن دور عمالقة الصحافة. غير أن الكتابة عن الأشخاص تفرض على الكاتب معرفة تامة وشاملة بالشخص دراسةً وتأملاً، وبقدر كبير من الشجاعة غير المجاملة المرفوضة غالبا من الناس المنحازين لهذا الشخص أو ذاك، ثم تفرض على الكاتب التحلي بقدر كبير أيضا من الأمانة اللامتوفرة غالبا بكتاب السياسة والصحافة.
أنا اليوم مع فاروق القدومي. رجل ساهم في صنع تاريخ منظمة قادت بجدية كفاح شعب، وسارت به من الحرب الى السلم، ومن الحل الشامل الى التسوية الجزئية المنفردة، وحاولت أن تكون مستقلة عن عرب التدخل والوصاية، بقدر ما اجتهدت هي في التدخل الكارثي في شؤونهم. ثم انتهت اليوم الى مرحلة من التفكك والضياع والانقسام والصراع الداخلي، مرحلة تعرفها كل الأنظمة والمنظمات التي لا تعرف كيف تجدد نفسها وفكرها وتنظيمها، كي تتأقلم مع المتغيرات.
لعلي أجامل فاروق القدومي عندما أستعير من لطف «أبي اللطف»، فأقول إنه ساهم في صنع التاريخ. الواقع انه ساير وواكب صُنَّاع التاريخ الفلسطيني. وظل دائما الطائر المهاجر المغرد خارج السرب، الناقد لعرفات، لكن يظل عنده الرمز والقائد.
عاش «أبو اللطف» لطيفا مع الجميع، من دون أن ينحدر الى المضاربات اليومية في سوق السمسرة الفلسطينية، إلا في مرحلة محمود عباس الذي كان يوما مساعدا له في قطاع السياسة الفلسطينية قوميا ودوليا. ربما العمر (77 سنة) الذي يجعل أكبر قادة فتح سنا يناصب العداء رجلا عجوزا (أبا مازن) ومثله الذي ظل هو أيضا على هامش السلاح، ثم كان أسعد أو أسوأ حظا من أبي اللطف، فأصبح قائد المسيرة السياسية في المرحلة الأصعب، مرحلة ما بعد عرفات.
لماذا يختلف القدومي مع عباس؟
أبو اللطف يشابه عباس في المزاجية الحساسة والمرهفة جدا التي لا تناسب محترفي السياسة. كلاهما ناج من القتل والاغتيال بسلاح الرفاق والأعداء، ربما لأنهما حملا الحقيبة بدلا من البندقية. وكلاهما لا يملكان قاعدة شعبية واسعة، لكن الخلاف بينهما في الرؤية السياسية يلقي بظلاله على قضيتهما العادلة، وعلى العلاقة الشخصية بينهما. لعله حسد القدومي لعباس ورغبة عباس في التخلص من القدومي الأكبر والأنزه والأكثر احتراما بين القواعد والقيادات.
كسل القدومي من كسل عباس. كسلهما الثوري ومزاجيتهما المرهفة وهشة الانكسار ساعدتا عرفات الأدهى والأكثر معرفة بالناس على تحييدهما سياسيا وتنظيميا، ثم على استخدامهما عندما تقتضي الحاجة إليهما. وهكذا ظل أبو اللطف ينفي ولا يدري الى آخر لحظة ما حدث من وقائع على فراش الزوج المخدوع في أوسلو، فيما كان عباس منهمكا في تحقيق حلمه السياسي الذي لم يتحقق بالسلاح: التسوية السلمية مع اسرائيل، بأقل قدر من التنازلات.
عندما اكتشف الزوج المخدوع «الخيانة» رفض الاعتراف بثمرتها «المسمومة». ورفض العودة مع عرفات وعباس والرفاق من تونس إلى الأرض المحتلة. كان رهانه على فشل أوسلو صائبا، لكن خصومه يرجعون عدم عودته الى كسله وإيثاره الراحة، ولأن أعصابه لا تتحمل وطأة الصدام مع الاحتلال أو مع حماس والجهاد. ولعلي أكشف سرا عندما أقول إن لأبي اللطف تاريخا من الانهيارات العصبية التي اقتضت علاجا طويلا، ولا سيما في السبعينات والثمانينات، بعد الصدامات الدموية مع الأردنيين والسوريين واللبنانيين.
فاروق القدومي حامل الهوى المتعب. بعثيته القديمة منحت فكره السياسي بعدا نظريا قوميا، فجعلته استثناء بين الرفاق. القدومي صائب الرأي في رهانه القومي. هو يعرف من خلال قراءاته ان فلسطين لم يحررها تاريخيا الفلسطينيون، انما تحررت بوحدة القيادة في مصر وسورية.
درس القدومي الاقتصاد في جامعة القاهرة الأميركية. عمل موظفا ومستشارا اقتصاديا في ليبيا والسعودية (أرامكو) وخلال عمله في الكويت، حدث اللقاء التاريخي مع عرفات عندما شاركا مع رفاق (رحلوا) في تأسيس فتح (1965).
في صراع القدومي الذي يمثل المرجعية الثورية مع عباس الذي يمثل المرجعية السياسية المنتخبة شعبيا، يلجأ الرجلان الى أساليب لا تتفق مع الأخلاقية الشخصية التي يحرصان عليها. حاول عباس تحييد نفوذ القدومي بتجريده من سلطته على التمثيل الديبلوماسي في الخارج. في المقابل، دعا القدومي سفراءه الى العصيان على توجيهات ناصر القدوة وزير خارجية عباس. رد «المجلس الثوري« لفتح بتجريد القدومي من لقبه كرئيس لفتح، واعتقل الأمن الوقائي مدير مكتبه في غزة عندما حاول إنشاء ميليشيا للقدومي. الواقع أن القدومي أمين لسر فتح، وبالتالي فهو يعتبر رئيسا لها، بعد غياب عرفات.
كان الخلاف كارثيا. أصيبت أنجح ديبلوماسية عربية بشلل البلبلة نتيجة للصراع المؤسف. ووصل الأمر الى التشاكي لدى كوفي انان حول اختيار ممثل فلسطين في الأمم المتحدة. القدومي الذي يرتبط بعلاقة وثيقة جدا مع سورية (والى حد ما مع عراق صدام) حرض دمشق على عدم فتح سفارة لعباس فيها.
حُكم القدومي بالفشل على أوسلو، وطهره الثوري، وسمعته الطيبة، ثم نظافته التي تضعه فوق مستوى فساد بعض رجال السلطة والأجهزة الفلسطينية... كل ذلك لا يجعل أحكامه ورهاناته كلها صائبة وخالية من التناقض، أو من عدم اتفاق التكهن مع الواقع المتشكل على الأرض.
القدومي يقبل بالتفاوض. يقبل بالتسوية المرحلية في استحالة الحل التاريخي. يرفض أوسلو. يساير «خريطة الطريق»، ثم يعتبرها «عملية إلهائية ووهمية لكسب الوقت»! مع الحوار مع اميركا، وكان ضدها في حرب العراق (حيث خسارة بوش فيها مؤكدة). القدومي ضد حصار سورية. يقول ان لا سلام ولا استقرار في المنطقة، من دون تسوية مع سورية. القدومي يقبل بالتسوية المرحلية على أساس انسحاب شامل، لأن الانفراد أضر بالقضية.
في محاولته اجتذاب جيل الشباب ضد جيله وجيل عباس، يدعو القدومي الى استمرار الانتفاضة. غير أنه أخطأ في الرهان على عدم انسحاب اسرائيل من غزة. ضعف القدومي يرجع الى انقطاع صلته مع جيل الخط الأول الميداني الذي يراهن عليه، نتيجة لعدم عودته الى الأرض المحتلة، ثم ضعفه من ضعف سورية التي تسانده.
في الحب، على العاشق أن يعرف كيف يختار الفرصة المناسبة لتقبيل الفتاة. في السياسة، على السياسي أن يعرف كيف ومتى يعتزل السياسة. وإذا كان لي من رأي شخصي لا يرتبط بسياسة وغير منحاز لعباس، فلعل الخير للقدومي ولقضيته أن يُحظى باستراحة ذاتية أو إجبارية. فما تبقى من العمر هو بعض الزيت المشتعل الذي يثير منارة الاكتفاء بالرؤية البعيدة والتفكير العميق اللذين يخدمان فعلا القضية، نأيا بنفسه عن عصاب الصراع مع السلطة والمتغيرات.
غسان الإمام