الرواية الحقيقية
*كيف يمكن للمرء بعد الاستماع إلى كل هذه "المعلومات"المتضاربة أن يتمكن في النهاية م اقتناص الرواية الحقيقية؟كأن الامر يشبه إلى حد بعيد البحث عن ابرة صغيرة في كومة هائلة من القش والتبن ,وع ذلك تمكنا ,بقدر قليل من الذكاء ,وبقدر كبير من الجهود والاصرار عن اقتناص ما نعتقد انه الرواية الحقيقية ,الاشخاص الذين يمكن أن يكونوا قد رأوا الفتاة بأم اعينهم كما يقال كانوا ضمن قائمة الاسماء التالية:
**"مصطفى"مرافق الشهيد القائد "أبو جهاد"الذي اغتالته مجموعة الاقتحام في اللحظة الاولى للعملية كلها ,ولم يعد من الممكن سماع شهادته عن موضوع الفتاة,أو اعادة استنطاقه مرة اخرى لأنه في النهاية اخذ سره معه حيث دفن في مقابر الشهداء في مخيم الرشيدية جنوب لبنان.
**و"حبيب"البستاني التونسي,كان الضحية الثانية بعد مصطفى مباشرة ,وقد وجد الشهيد في حديقة المنزل على بعد 15 مترا فقط من البوابة الخارجية.
**الشهيد الثالث كان "أبو سليمان"الذي اغتالته مجموعة الكوماندوس في قبو المنزل, حيث كان راقد بانتظار نوبة حراسته ,واغلب الظن انه فتح عينه لأقل من لحظة واحدة لم ير فيها ملامح القتلة الذين اطلقوا عليه الزخات الغزيرة من رصاص بنادق ألعوزي الإسرائيلية ,إلى درجة أن صوت الطلقات كان واضحاً ويمكن تميزه من المنازل المجاورة لمنزل الشهيد"أبو جهاد"
بعد اغتيال "مصطفى" على البوابة الخارجية اندفعت واحدة من مجموعتي الاقتحام إلى الباب الداخلي , ووضعت عتلة حديدية في الباب الخشبي ورفسته بأقدامها الغليظة فانفتح الباب محدثا هذا الصرير المدغوم الذي تناهى صوته إلى أذني القائد الفلسطيني "أبو جهاد" حيث كان في هذه اللحظة بالذات يجري محادثات هاتفية مع احد مكاتبه في احد العواصم الأوربية .
كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة وعشر دقائق , ربما تجاوزتها بثواني قليلة كانت ثقيلة كالدهر , ومشحونة بالقلق الكامن والتوتر المكبوت .
على مكتب " أبو جهاد " كانت هناك رسالة يهم بتسطيرها للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة , كان قد كتب منها اربعة واربعين كلمة فقط احتوتها جميعا ستة اسطر فحسب
ولم يكمل " أبو جهاد " الرسالة , وكأنما ليترك فيها وصيته الأخيرة : " اكملوا رسالتي من بعدي " .
على الهاتف جرى الحوار التالي بين " أبو جهاد " ومحادثته على الخط الآخر في هذه العاصمة الأوربية .
- " مرحبا " .. قالها أبو جهاد كعادته وهو يفتتح محادثته مع الآخرين.. " آسفين على الازعاج , اتصلوا بي من روما وابلغوني أن " فايز أبو رحمة " قد اعتقل , ممكن بالله نتأكد من هذا الخبر" .
- الساعة الآن تشير إلى الواحدة وعشر دقائق بعد منتصف الليل في غزة , مما كان من الصعب سؤال احد الآن عن صحة هذا الخبر .. في الصباح يمكن أن نتأكد " .
- هذا كل ما قاله محادث " أبو جهاد " على الخط الآخر وهنا بالذات انهى " أبو جهاد " محادثته , لم يكن مرتبكا رغم انه لحظتها كان قد سمع صوت خلع الباب فعلى مدى 35 عاما من العمل والنضال لم يشعر " أبو جهاد " احدا بالقلق أو الارتباك , بل كان على العكس يضفي على الآخرين في احلك الساعات وأكثرها خطرا , هذا القدر العجيب من الطمأنينة والأمل اللتين كان يتميز بهما على الدوام لم يتردد " أبو جهاد " في حسم موقفه كعادته , ادرك على الفور أن الأمر جلل , فاستل مسدسه الذي يضعه فوق الخزانة المجاورة , ويصر على تغطيته بطاقية صغيرة بيضاء , ولم ينتظر أن تفاجئه المعركة التي سمع هديرها في انخلاع الباب , ووطأت البسا طير العسكرية الغليظة لمجموعة الاغتيال وهي تنهب الدرج الداخلي للمنزل وتصعده بسرعة فائقة حيث كان أبو جهاد .
- لم يتراجع ولم يختبئ بل خرج فورا للمواجهة قابضا على مسدسه ليبادر كعادته باطلاق الرصاصة الأولى على اعدائه .
- كان القتلة اربعة , اطلق أبو جهاد الرصاصة الأولى فأصاب احدهم لكن سرعان ما ادلق الآخرون زخات كثيفة من الرصاص " الخاص " الذي انهمر بشكل غزير على كفه فانفجر المسدس في يمينه , ومن ثم تناوب القتلة على الضحية , اربعة وسبعون طلقة اخترقت رأسه وجسده الطاهر , ظهره كان للحائط وكأنما كان عليه وهو في لحظة استشهاده أن يلخص كل مأساة الفلسطيني المعاصر الذي يقاتل وظهره للحائط .
- لم يكمل " أبو جهاد " رسالته الأخيرة للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة , ولم ينطق بكلمة واحدة غير انه تمتم بالشهادة وهو يضغط بسبابته على زناد مسدسه ولم نعرف أن كان قد لمح فتاة بين القتلة ام لا ؟
- لا , لم يكن هناك لا حسناء ولا ذميمة بين المجموعة التي صعدت الدرج واغتالت "أبو جهاد " , نحن نجزم بالنفي لأن الثلاثة الذين رأوا القتلة الأربعة تطابقت أقوالهم , وأكدوا ثلاثتهم انه لم يكن هناك من امرأة بين مجموعة الاغتيال التي نفذت الجريمة .
- ومع ذلك ما زلنا نصر على وجود امرأة وربما اكثر , في العملية كلها وليس في الأمر من لغز جديد على الاطلاق .
*" ام جهاد " – انتصار الوزير , ابنة عم " أبو جهاد " ورفيقة عمره , واخته في نضاله وزوجته وام ابنائه الخمسة كانت قد أوت إلى فراشها قبل اقل من ساعة , وفي كنفها كان "نضال " اصغر ابنائها ينام في أمان .
كانت " ام جهاد " أول من تنبه إلى حركة أبو جهاد وهو يخرج لمواجهة خصومه , ازاحها برفق إلى الطرف الآخر لباب غرفتهم .
احد القتلة وضع فوهة رشاشة على رأسها , ومنعها من الحركة , ورغم الدخان الكثيف الذي ملأ هذه المساحة الصغيرة برائحة البارود النفاذ , الا أن " أم جهاد " كانت قد ميزت ملامح هذا القاتل الذي كان يضع كالآخرين كمامة على انفه وفمه فقط رأسه كان كبيرا , ومستديرا وشعره اشقر وملامحه اجنبية وعيناه زرقاوان . " ولم يكن هناك امرأة " هذا ما أكدته ام جهاد بشكل قاطع .
*و" حنان " أقرب ابناء أبو جهاد إلى قلبه كانت هي الأخرى نائمة في غرفتها الداخلية في الطابق نفسه , سمعت صوت ازيز الرصاص , لكنها اعتقدت أن كابوسا ما اخترق احلامها , ثم تنبهت وهرعت خارج غرفتها فاصطدمت على الفور بأحد القتلة . ربما كان قائد المجموعة , قصيرا وممتلئا اصلعا ورأسه كبير , قدرت حنان أن يكون قد تجاوز عقده الرابع , التجاعيد واضحة على طرفي عينه , يرتدي كالمجموعة نفس الزي الذي يرتديه رجال وحدة مكافحة الارهاب التونسية , يحمل في يده رشاشا عليه كاتم للصوت , ووسطه مزنر بحزام عريض مشكوك كله بطلقات الرصاص وعلى جانب خصره كان هناك مسدس آخر .
بشكل غريزي سألته حنان " شو في " ما الأمر ؟ كررتها حنان فدفعها هذا المجرم باتجاه موقع المجزرة وهو يقول " روحي هناك حد امك " .
لا يمكن أن يكون هذا القاتل امرأة , القتلة الثلاثة الآخرون رأتهم " حنان " من خلف الدخان الذي اطلقته حمم الرشاشات , كانوا ينسحبون لحظتها , و كان عليها هي في هذه اللحظة المستحيلة أن تملي عيناها المتفجرتان بالحيرة والدموع من ابيها وصديقها وقائدها " أبو جهاد " .
لم تنته قائمة شهودنا بعد هناك فتاة اخرى ربنا كانت هي مفتاح كل هذه القضية أو ربما كانت أحد الغازها الجديدة .
*اسمها " راضية " تعمل كمربية للصغير" نضال" الذي تعلق بها , وتقيم مع الأسرة بصورة شبه دائمة , يعاملونها كابنة لهم , سمراء نحيفة , تميل إلى القصر , أكثر ذكاء مما يمكن أن تتوقعه ينتهي رأسها الصغير بشعر اسود معقود في ضفيرة صغيرة تتأرجح خلفها كذيل ناقة الجمل .
- كانت " راضية " في هذه الليلة ترقد في الغرفة المجاورة لغرفة نوم " أبو جهاد " التي تطل نافذتها على البوابة الخارجية للمنزل المجاور.
- عندما سمعت راضية صوت الرصاصة الأولى التي اغتالت " مصطفى " على البوابة الخارجية تنبهت من نومها وكذا سمعت صوت الباب الخشبي وهو يخلع وصوت اقدام غرفتها في حذر فارعبها ما رأت وأوصدت الباب وبقيت خلفه .
- أحد القتلة من مجموعة الكوماندس دخل إلى غرفة نوم " أبو جهاد " حيث كان نضال ربما يبكي ويصرخ في لوعة , وهو لا يعي بعقله الصغير . هول ما يحدث على عتبة باب الغرفة , ربما كان قلبه قد ادرك المأساة فاطلق من صدره هذا البكاء الصارخ , وهذا الصراخ المبكي الحزين ويبدوان صراخ نضال قد افزع القتلة فأطلق احدهم زخات عصبية من رشاشه فوق رأس الصغير ليسكته .
- انسحب القتلة ولم يدخلوا غرفة " راضية " , ومن كوة نافذتها المطلة على البوابة الخارجية رأت وهي مفتوحة العينين تماما , وتحت ضوء الشارع , المفاجأة , امرأة , نعم امرأة شعرها اسود ينسدل حتى كتفها, ترتدي جاكيت صوف أحمر اللون من دون اكمام , تحته قميص اسود , فوق تنورة سوداء أو كحلية , لم تعط " راضية " اوصافها لوجه الفتاة , قالت أنها قصيرة بعض الشيء وأنها كانت تحمل ما يشبه الحقيبة أو شيئا آخر لم تميزه معلقا من عنقها ومدلى على صدرها .
- *نعم رأت " راضية " فتاة , بل وسمعتها ايضا وهي تقول بالفرنسية " ساييه " " ساييه " , أي " خلاص " وهي تشير للمجموعة بالانسحاب .
- لكن" راضية " التي يمكن أن تكون مفتاح القضية ,أو لغزا جديدا لها , لم تعرف اسم الفتاة التي رأتها وسمعتها , وقالت أنها لم ترها من قبل ولا تعرف أن كان اسمها " ديمونا " أو " يهودا براك " أو " عواطف علام " أو " عائشة السر يدي " أو أنها كانت تحمل اسماء أخرى .